مقال رئيس التحرير
هاجر محرر
كل الخير في التطوع..
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
مثلما تتسابق قطرات المطر بالهطول على الأرض اليابسة طوعًا لتُحيِي نباتها، وتضفي الروح على أراضيها الميتة، كذلك ينزل العمل التطوعي على الشخص وعلى المجتمع خيرات كثيرة. فإحياء النبات هو الجانب المادي من حركة الأمطار، أما الجانب المعنوي الشعوري منها فيتمثل في إدخال السلام والبهجة بألوان الطبيعة وتناسقها على الإنسان. عرف التطوع منذ الأزل أنه من أرقى الأعمال، فيزيد به الودّ بين الناس، والاحترام، وتقبل الآخر، كما يزيد من الخبرات الحياتية ويكسب مهارة حية في التعامل مع الناس. أما الجانب الذي قد لا يعلمه الكثير أنه أيضًا يزيد من نسبة الإيمان والتعلق بالله، كما أن الإيمان يزيد من نسبة التطوع، فعلاقتهما طردية. والأجمل أن جزاء العمل بلا مقابل لا ينتظر إلى حياة أخرى، بل ثماره لحظية، تتحقق في النفس ماديًا ومعنويًا. وهذان الجانبان لا يتجزءان، فخُلقنا لطاعة الله في الحياة فيجزينا بأعمالنا الخيرة في الدنيا لتحفزنا على البذل أكثر من أجل جمع أكبر مخزون من الحسنات للآخرة.
الأمر الجميل أن الإسلام بني بالتطوع، فالصحابة لم يدخلوا الإسلام بإجبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بل كان بطيب خاطرهم، كما أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بني بجهود الصحابة تطوعًا منهم. والإسلام دولة في نفس كل مسلم يسعى إلى بنائها واستقامتها وكل حسنة هي حجر بناء في المنظومة الإسلامية داخل قلب هذا المؤمن، والحسنة الزيادة لا يكتسبها المؤمن إلا تطوعًا منه، وله مطلق الحرية في اختيار وقت اكتساب الحسنة، إلا أن حريته غير مطلقة، محدودة بوقت.. محدودة بأجل. فيقول الله تعالى: “﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ [سورة البقرة الآية: 148]
يقول الدكتور عبدالرحمن أبو دوم في كتابه “العمل التطوعي والأمن - منظور إيماني”: إن الإيمان هو مجموع ممارسات تطوعية مختلفة، والتطوع يحيط بأركان الإسلام الخمسة… بما في ذلك قول “لا إله إلا الله” الشهادة وهي في قمة درجات سلم شعب الإيمان، فالشهادة المفروضة مرة في العمر والصلوات ٥ والصيام مرة في العام، والزكاة أيضًا، والحج والعمرة مرة في العمر..” أي أن كل ما زاد عن المطلوب هو تطوع من المؤمن. ومن فضائل المؤمن المتطوع أنه يكون أكثر قربة إلى الله تعالى في حديث قدسي: “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…” يستنتج الدكتور عبدالرحمن من هذا أن العلاقة بين العمل التطوعي والإيمان علاقة طردية لازمة متبادلة، فالعمل التطوعي يزيد بالإيمان والإيمان يدفع إلى مزيد من التطوع والإيمان يورث الأمن.
والصدقة تطوع، والابتسامة تطوع، وإلقاء السلام تطوع… لم يحصي الإسلام التطوع في بعض التصرفات بل هو مجال مفتوح، حتى أنه جعل ممن لا يتطوع ولا يحث عليه كاذبًا بالدين حيث قال تعالى:”أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)” سورة الكوثر.
نجد أن هذا الإنسان الذي يعيش في قوقعة ذاته بأنانية تعتريه جملة من الأمراض النفسية التي لا تشعره بالراحة والاطمئنان، ويفقد السلام الداخلي. لأن الله لم يخلق الإنسان معزولاً خلق معه الناس أجمعين بأقدارٍ مختلفة وقوات مختلفة ليتعاونوا ويتعايشوا مع بعض، ويميزوا بين التصرف الخبيث الذي يؤدي بهم إلى الحقد والكراهية، والتصرف النبيل المليء بالعطاء والتسامح والحب.
والعمل التطوعي لا يقتصر على رفع الإنسان في الإيمان رغم أهمية هذا الجانب، بل ينمي المهارات والمواهب، فطالما سمعنا بأناس نموا مهاراتهم من خلال العمل التطوعي و إيمانًا بقدراتهم وإيمانًا بطاقتهم على البذل وإفادة المجتمع بهذه الطاقة التي وهبهم الله. فمن أراد أن ينمي المهارات القيادية يتجه إلى العمل التطوعي، ومن أراد أن ينمي التصوير، ومن أراد أن ينمي التنظيم… وغيرها الكثير من المهارات كلها تبدأ بخطوة سليمة. ربما قد يبدأ الإنسان من أجل إفادة نفسه ولكن عندما يعود للتفكير إلى الوراء يجد أن ما أسعده خلال قيامه بالعمل كان تقديمه المساعدة والعون لإخوانه، أنه كان طاقة من الطاقات التي بذلت من أجل تحقيق هدف ما لإفادة المجتمع، وأن دوره لم يكن مهمشًا.
وأنا بالفعل أؤمن أن العمل التطوعي هو الذي فتح لي الآفاق الإيمانية والآفاق العملية والحياتية التي كنت أراها قبله صعبة المنال، كل شيء يصبح أسهل عندما نوجهه في رضا الله ونؤمن بقدرته، يعطينا ربنا بلا مقابل، ومن الجميل أن نلتمس من هذا الجمال الرباني. بما أننا لا زلنا شباب ونملك الطاقة على التقديم، فلمَ لا نقدم؟ قبل أن يفوت الأوان… وأريد أن أختم بهذه الحكمة التي أتذكرها دائمًا: سنة من الآن سوف تتمنى لو أنك بدأت اليوم.